كثيرون شغوفون بقصص الحب الخالدة، بالأخص تلك التي ترتبط بمكان شاهد عليها، يصمد عبر الزمن ويتحول إلى مزار للعشاق.
قصر "الباهية" في مدينة مراكش المغربية، واحد من هذه المعالم الإنسانية والتاريخية التي شاءت لها أن تخلد، قصة الحب في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، بين وزير الدولة القوي في عهد السلطان العلوي المغربي المولى عبد العزيز و"لالة الباهية" الحسناء من قبيلة الرحامنة المتاخمة للمدينة.
تروي كتب التراث والتاريخ المغربية، أن موسى بن أحمد السملالي الملقب "باحماد" وزير الدولة على عهد السلطان المولى الحسن الأول، والوزير الأول على عهد ابنه السلطان المولى عبد العزيز، أحبّ "لالة الباهية" الفتاة بديعة الجمال من قبيلة الرحامنة العربية على أعتاب مراكش، بعد أن رآها في إحدى تنقلاتها بين قلعة والدها في القبيلة ورياضه (البيوت المغربية التقليدية في المدن العتيقة) في المدينة قصد التعلم.
ولم تكن "لالة الباهية" سيدة جميلة فحسب، بل امرأة ذكية وفطنة ويعمل برأيها ومشورتها باحماد الذي تزوجها. ويمكن تصور أي ذكاء حتى تؤثر الفاتنة الرحمانية في رجل مثل باحمّاد، والذي قال في وصفه المؤرخ والأديب مولاي عبد الرحمن بن زيدان "كان أحمد بن موسى (باحماد) شعلة ذكاء ونباهة، فقيها حازماً، ضابطاً عفيف الإزار، طاهر الذيل، آية في الدهاء وحسن التدبير، ذا حزم وثبات ومجالسه لا تخلو من العلماء ومذكراتهم". كذلك قول الفقيه العلامة المختار السوسي أن باحماد "أشبه الناس بالسلطان المولى الحسن الأول في تنظيمه وفي اشتغاله بالجد، فلم يكن يعرف غير العمل".
وتخليداً لهذا الحب أراد باحماد أن يهدي فاتنته الرحمانية، قصراً يظل شاهداً على عاطفته، قصراً يمتد على مساحة 22 ألف متر مربع في مراكش، ويسمى باسمها "الباهية". وبين هذه الإرادة والقدر تأتي درامية القصة، باحماد توفي سنة 1890 ميلادية قبل انتهاء أشغال بناء القصر، وظل بعده أمر لالة الباهية مجهولاً نسبياً، فيما صار القصر إلى السلطان الحاكم ثم إلى كبار ضباط الاستعمار الفرنسي.
بعد وفاة الوزير باحماد مباشرةً تم ضمّ قصر الباهية إلى القصور الملكية، وبعد حين سُلّم إلى الباشا الكلاوي، شقيق باشا مراكش التهامي الكلاوي، ثم إلى المقيم العام الفرنسي الماريشال لويس إيبير ليوتي، الذي أدخل تعديلات كبيرة ككماليات على مبنى القصر الأصلي، بينها بناء مدفأة ووضع مراوح للتهوية، وخطوطا للهاتف والتلغراف.
اقرأ أيضا:الملحفة الصحراوية.. زي مغربي فلكلوري غزته الألوان
وبعد وفاة الماريشال تناوب على القصر كبار الضباط العسكريين الفرنسيين، وأدخلوا تغييرات عليه تتناسب مع حياتهم المرفهة وبيئتهم الفرنسية القادمين منها، لكن أيّاَ منهم لم يستطع أن يخرج عن روح المكان أو التخلّي عمّا تركه باحماد من عظمة وبهاء.
مدينة مراكش معروفةٌ بطبيعتها الساحرة، وهي زاهرة بعمارة عدد من الحضارات، لذا كان من المناسب لرومانطيقية قصة حب كالتي جمعت بين باحماد ولالة الباهية أن تتوج بآية فنية وعمرانية بديعة هي قصر الباهية، فالوزير أحضر أمهر الصناع والحرفيين من مدينته الشهيرة بأصالة وجودة عملهم، فأبدع الحرفيون في رص "الرياض الكبير" والساحة الشمالية والأجنحة والقاعات والملحقات بالنقوش الجبصية والمحفورات الخشبية.
ترأس ورش بناء القصر، المهندس المغربي محمد بن المكي المسيوي، الذي تلقى فنون صناعة الخشب بمكناس وفن النقش على الجبس بمدينة فاس على يد الضابط الفرنسي "أركمان" رئيس البعثة الفرنسية قبل الحماية، واعتنى المسيوي بتوصية باحماد على إدخال الأحواض إلى بناء القصر والعناية بالحدائق فيه، فتوسط هذه الأخيرة صهريج معروف باسم "أكدال باحماد".
وأنشأ الوزير بالقصر رياضاً خاصاً صغيراً تتميّز أجنحته بنمط بناء المدارس العتيقة، تعلو أروقته أفاريز خشبية ملونة بمواد طبيعية، وضمّ الرياض في الساحة الشرقية ديوان باحماد. ويمكن للوافد أن يدخل الرياض الكبير للقصر من الساحة الشرقية عبر ردهة منقوشة ومزخرفة، وقد نقشت بالجبس على جدران قاعته الشمالية الكبرى أبيات شعرية موحية تؤرخ لبنائه. شهدت القاعة الجنوبية للرياض عدة تغييرات، تتضح من خلال شكل السقوف والزخارف التي يجاورها جناح "الزوجة النبيلة"، أي سيدة القصر وهي هنا لالة الباهية. والجناح عبارة عن صحن مغطى بسقف خشبي به قاعتان وبهوان كبيران.
اقرأ أيضا:أسبوع احتفالي بالقفطان المغربي وتتويج ملكة جمال العارضات
وفي فناء الرياض سواء الصغير أو الكبير حرص الوزير على عملية التشجير، فزرع أشجار الليمون والورد والزهر والرياحين وغيرها، تتوسطها جميعاً نافورة مياه تكمل جمالية المشهد. ولا يعكس معمار القصر فقط جمالية المزج بين العمارة الأندلسية والمغربية، بل ويجسّد في أجمل صورة المعيش المراكشي في القرن التاسع عشر، بخصوصيته وحميميته وحدوده وفواصله أيضاً.
بتاريخ 21 يناير/كانون الثاني 1924، نشر بالجريدة الرسمية في المغرب ظهير شريف (مرسوم ملكي) يصنف قصر "الباهية" ضمن المباني التاريخية للبلد، والتي يتعين حمايتها والحرص على العناية بها ومحتوياتها، كما ينصّ على ذلك الظهير الخاص بالمحافظة على الآثار، الصادر بتاريخ 4 يوليو/تموز 1922.
ويفتح اليوم قصر "الباهية" أبوابه لعموم الزوار من داخل المغرب وخارجه، بأسعار دخول رمزية ما عدا يوم الجمعة المسموح الدخول فيه مجاناً. ويُسمح للسياح بدخول الرياض الصغير للقصر وأجنحته وفنائه وحديقته، بينما تظل بقية أجزاء القصر محروسة تتعلق حولها خيالات الوافدين بالأخص حول جناح "لالة الباهية" وديوان "باحماد".
أمّا السياح الذين يتوافدون إلى القصر فهم من مختلف الجنسيات وبقاع العالم، الرابط بينهم شغفهم بأن يروا عياناً المكان الذي يؤرخ لقصة الحب التاريخية بين رجل السلطة في مركز مرموق والذي له أعداء كثر وحساد أكثر، بين شابة بدوية قادمة من مرابع الجمال والذكاء. هنا داخل قصر "الباهية" تجلس في رياض العاشقين وتلمس للصمت طرفاً شفيفاً، يخشى الزوار جرحه وهم في حضرة الحب والجمال والسلطة.
اقرأ أيضا:بحيرة "ضاية عوا" المغربية: سياحة الهدوء مع الطيور والأسماك
قصر "الباهية" في مدينة مراكش المغربية، واحد من هذه المعالم الإنسانية والتاريخية التي شاءت لها أن تخلد، قصة الحب في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، بين وزير الدولة القوي في عهد السلطان العلوي المغربي المولى عبد العزيز و"لالة الباهية" الحسناء من قبيلة الرحامنة المتاخمة للمدينة.
تروي كتب التراث والتاريخ المغربية، أن موسى بن أحمد السملالي الملقب "باحماد" وزير الدولة على عهد السلطان المولى الحسن الأول، والوزير الأول على عهد ابنه السلطان المولى عبد العزيز، أحبّ "لالة الباهية" الفتاة بديعة الجمال من قبيلة الرحامنة العربية على أعتاب مراكش، بعد أن رآها في إحدى تنقلاتها بين قلعة والدها في القبيلة ورياضه (البيوت المغربية التقليدية في المدن العتيقة) في المدينة قصد التعلم.
ولم تكن "لالة الباهية" سيدة جميلة فحسب، بل امرأة ذكية وفطنة ويعمل برأيها ومشورتها باحماد الذي تزوجها. ويمكن تصور أي ذكاء حتى تؤثر الفاتنة الرحمانية في رجل مثل باحمّاد، والذي قال في وصفه المؤرخ والأديب مولاي عبد الرحمن بن زيدان "كان أحمد بن موسى (باحماد) شعلة ذكاء ونباهة، فقيها حازماً، ضابطاً عفيف الإزار، طاهر الذيل، آية في الدهاء وحسن التدبير، ذا حزم وثبات ومجالسه لا تخلو من العلماء ومذكراتهم". كذلك قول الفقيه العلامة المختار السوسي أن باحماد "أشبه الناس بالسلطان المولى الحسن الأول في تنظيمه وفي اشتغاله بالجد، فلم يكن يعرف غير العمل".
وتخليداً لهذا الحب أراد باحماد أن يهدي فاتنته الرحمانية، قصراً يظل شاهداً على عاطفته، قصراً يمتد على مساحة 22 ألف متر مربع في مراكش، ويسمى باسمها "الباهية". وبين هذه الإرادة والقدر تأتي درامية القصة، باحماد توفي سنة 1890 ميلادية قبل انتهاء أشغال بناء القصر، وظل بعده أمر لالة الباهية مجهولاً نسبياً، فيما صار القصر إلى السلطان الحاكم ثم إلى كبار ضباط الاستعمار الفرنسي.
بعد وفاة الوزير باحماد مباشرةً تم ضمّ قصر الباهية إلى القصور الملكية، وبعد حين سُلّم إلى الباشا الكلاوي، شقيق باشا مراكش التهامي الكلاوي، ثم إلى المقيم العام الفرنسي الماريشال لويس إيبير ليوتي، الذي أدخل تعديلات كبيرة ككماليات على مبنى القصر الأصلي، بينها بناء مدفأة ووضع مراوح للتهوية، وخطوطا للهاتف والتلغراف.
اقرأ أيضا:الملحفة الصحراوية.. زي مغربي فلكلوري غزته الألوان
وبعد وفاة الماريشال تناوب على القصر كبار الضباط العسكريين الفرنسيين، وأدخلوا تغييرات عليه تتناسب مع حياتهم المرفهة وبيئتهم الفرنسية القادمين منها، لكن أيّاَ منهم لم يستطع أن يخرج عن روح المكان أو التخلّي عمّا تركه باحماد من عظمة وبهاء.
مدينة مراكش معروفةٌ بطبيعتها الساحرة، وهي زاهرة بعمارة عدد من الحضارات، لذا كان من المناسب لرومانطيقية قصة حب كالتي جمعت بين باحماد ولالة الباهية أن تتوج بآية فنية وعمرانية بديعة هي قصر الباهية، فالوزير أحضر أمهر الصناع والحرفيين من مدينته الشهيرة بأصالة وجودة عملهم، فأبدع الحرفيون في رص "الرياض الكبير" والساحة الشمالية والأجنحة والقاعات والملحقات بالنقوش الجبصية والمحفورات الخشبية.
ترأس ورش بناء القصر، المهندس المغربي محمد بن المكي المسيوي، الذي تلقى فنون صناعة الخشب بمكناس وفن النقش على الجبس بمدينة فاس على يد الضابط الفرنسي "أركمان" رئيس البعثة الفرنسية قبل الحماية، واعتنى المسيوي بتوصية باحماد على إدخال الأحواض إلى بناء القصر والعناية بالحدائق فيه، فتوسط هذه الأخيرة صهريج معروف باسم "أكدال باحماد".
وأنشأ الوزير بالقصر رياضاً خاصاً صغيراً تتميّز أجنحته بنمط بناء المدارس العتيقة، تعلو أروقته أفاريز خشبية ملونة بمواد طبيعية، وضمّ الرياض في الساحة الشرقية ديوان باحماد. ويمكن للوافد أن يدخل الرياض الكبير للقصر من الساحة الشرقية عبر ردهة منقوشة ومزخرفة، وقد نقشت بالجبس على جدران قاعته الشمالية الكبرى أبيات شعرية موحية تؤرخ لبنائه. شهدت القاعة الجنوبية للرياض عدة تغييرات، تتضح من خلال شكل السقوف والزخارف التي يجاورها جناح "الزوجة النبيلة"، أي سيدة القصر وهي هنا لالة الباهية. والجناح عبارة عن صحن مغطى بسقف خشبي به قاعتان وبهوان كبيران.
اقرأ أيضا:أسبوع احتفالي بالقفطان المغربي وتتويج ملكة جمال العارضات
وفي فناء الرياض سواء الصغير أو الكبير حرص الوزير على عملية التشجير، فزرع أشجار الليمون والورد والزهر والرياحين وغيرها، تتوسطها جميعاً نافورة مياه تكمل جمالية المشهد. ولا يعكس معمار القصر فقط جمالية المزج بين العمارة الأندلسية والمغربية، بل ويجسّد في أجمل صورة المعيش المراكشي في القرن التاسع عشر، بخصوصيته وحميميته وحدوده وفواصله أيضاً.
بتاريخ 21 يناير/كانون الثاني 1924، نشر بالجريدة الرسمية في المغرب ظهير شريف (مرسوم ملكي) يصنف قصر "الباهية" ضمن المباني التاريخية للبلد، والتي يتعين حمايتها والحرص على العناية بها ومحتوياتها، كما ينصّ على ذلك الظهير الخاص بالمحافظة على الآثار، الصادر بتاريخ 4 يوليو/تموز 1922.
ويفتح اليوم قصر "الباهية" أبوابه لعموم الزوار من داخل المغرب وخارجه، بأسعار دخول رمزية ما عدا يوم الجمعة المسموح الدخول فيه مجاناً. ويُسمح للسياح بدخول الرياض الصغير للقصر وأجنحته وفنائه وحديقته، بينما تظل بقية أجزاء القصر محروسة تتعلق حولها خيالات الوافدين بالأخص حول جناح "لالة الباهية" وديوان "باحماد".
أمّا السياح الذين يتوافدون إلى القصر فهم من مختلف الجنسيات وبقاع العالم، الرابط بينهم شغفهم بأن يروا عياناً المكان الذي يؤرخ لقصة الحب التاريخية بين رجل السلطة في مركز مرموق والذي له أعداء كثر وحساد أكثر، بين شابة بدوية قادمة من مرابع الجمال والذكاء. هنا داخل قصر "الباهية" تجلس في رياض العاشقين وتلمس للصمت طرفاً شفيفاً، يخشى الزوار جرحه وهم في حضرة الحب والجمال والسلطة.
اقرأ أيضا:بحيرة "ضاية عوا" المغربية: سياحة الهدوء مع الطيور والأسماك